"حي" - ذكريات الرواية الأولى وهواجسها





"حي" - ذكريات الرواية الأولى وهواجسها



رواية حي - مصطفى الشيمي - عن دار العين



تدوينة أخيرة قبيل الالتحاق بالجيش.


(1)
  لا أملكُ من التفاصيلِ الكثيرَ، لأنني أملكُ ذاكرةً مثقوبةً، ولأجل هذا السبب ظننتُ أنني لن أكتبَ روايةً أبدًا. هكذا كنتُ أحكي مع عمرو عاشور، أو أحمد مجدي همام-أكان عاشور أم كان همام؟- وكان يذكرني بروائي يبدو مريضًا بذاتِ مرضي، ويشكي دومًا من الخرمِ الذي يسكنُ الذاكرة ويجعل الحكايات تفر بعيدًا، وبالطبعِ لا أذكر اسم هذا الروائي أو ماذا قال. غير أن هذه الحادثة ربما لا يتذكرها صديقي، الذي لا أذكر إلى اليوم من يكون، وهذا يعني أنني أتذكر ما لا يذكره صديقي صاحب الذاكرة القوية، وهذا يعني، أيضًا، أن الأمر قد لا يكون سوى هاجس مبالغ، فزع من الخوضِ في التجربةِ، فلطالما كتبتُ القصة القصيرة، وفزتُ في جوائزِها، أما الرواية، هذا الجنس الغامض جدًا، ماذا يكون؟ وماذا أكونُ؟ وكيف أجرؤ على كتابة الروايات في يومٍ من الأيامِ؟



(2)
  يحسدني صديقي المقرب والمجنون أحمد الصادق ويقول أنني أمتلكُ ذاكرة قوية، عندما نبدأ بالحديثِ في الأدبِ، في القصصِ القصيرة أو الروايات، أبدأ بالثرثرة ابتداء من أول كلمة في الرواية إلى آخر كلمة مكتوبة فيها. ذات يوم تشاجر أحمد الصادق مع الشاعر أحمد بلال لأن الأخير لم يقرأْ قصة الأول بعد، وكانت القصة هي "حكاية أنا الذي أشعر بوجودي"، فقال أحمد بلال "قرأتُها ولكني لا أذكرها"، وعندها قال صادق متحديًا "إن كنت قرأتها فما هي الجملة الأولى، الاستهلال، فيها؟" هنا... رفعتُ يد، كتلميذٍ نجيب، وطلبتُ أن أجيبَ وقلتُ واثقًا "ثمة شيء، هذه هي الجملة الأولى في القصةِ وقبلها وبعدها بعض النقط!"، كانت إجابتي صحيحة وصفق لي أحمد الصادق، ثم عاد ينظر إليّ بذاتِ النظرات المليئة بالحسدِ والغبطةِ ويقول "ذاكرتك بنت كلب!".



(3)
  أنا أثرثرُ فقط، ولا شيء آخر، لأن هذه هي التدوينة الأخيرة التي أكتبها قبيل دخولي الجيش، لذا لا تقرأ إن كنت تشعر بالمللِ، لا تقرأ إن كنت لا تثق في هذا القلم، لا تقرأ إلا لو كنت ستفتقد هذه الحروف وصاحبها مثلما سأفتقدُ حروفَ غيري.



(4)
  "حي" باكورة أعمالي الأدبية، من حيث النشر، سبقها مجموعتان قصصيتان وهما، عاهرة القمر، والتي فازت بالمركز الثالث في مسابقة الهيئة العامة لقصور الثقافة، والأخرى هي، فراشات ملونة والتي فازت بالمركز الخامس في مسابقة كتاب اليوم، لكن "حي" تظل هي أكثر الأعمال التي أرهقتني في كتابتِها، عشر شهور كاملة ظللتُ أكتبها فيها، ولم أبرحْ مقعدي من أمام الكمبيوتر، بلا مبالغة، حتى أنني بعد الانتهاء من كتابتها شعرتُ بألامِ لا حصر لها في ظهري، ومعدتي، نتيجة لعدم الحركة وطول الجلوس. كنتُ في سباقٍ مع الوقتِ حتى أنني رسبتُ في الجامعة ترمًا إضافيًا من أجل الانتهاءِ من الرواية وقبل الدخول في الجيشِ، كنتُ أكتبُ، ولا أفعل شيئًا آخرًا، لا آكل ولا أشرب، وبالكادِ أتذكرُ هذا حين أكاد أسقطُ أرضًا، فأكل سريعًا من أجل الجلوس مرة أخرى للكتابةِ أو لقراءةِ بعض الكتب التي أحتاجها في الكتابةِ، فالمذاكرة ضرورة فنية، وهذا هو أول الدروس التي تعلمتُها من كتابة الروايات.
  وربما لم يشهدْ أحدٌ معاناتي قدر صديقي بلال، الذي كان يقرأ كل كلمة أكتبها، وكل سطرٍ، وكل فصل، ويعيد القراءة مرة أخرى من جديدِ حين أبدل كلمة واحدة، يقولُ لي هذا الجزء جيد، هذا الجزء سيء، ببرودِه المعتاد عند النقدِ، وكان ينير لي أشياء لا أراها من فرطِ الإرهاق، لذا كنتُ أترك الرواية لبعض الوقت وأعودُ إليها من أجل النظر إليها بشكل أفضل، غير أنني، في الغالبِ، لم أكن أنساها، أظل أفكر فيها ونحن نلعب الشطرنج في مقهى العم صالح، ونحن نتحدثُ عن الأدبِ، أو الفتيات الجميلات، أو قصص الحب الفاشلة. 



(5)
  المهم بالنسبة لي أن "حي" خطوة أولى على الطريق، تعارف جاد بيني وبين القاريء- خاصة وأنا الذي أكتبُ كثيرًا ولا أنشرُ، أو أنشرُ قليلاً، سواء نشر ورقي أو على صحفات التواصل الإجتماعي-، يعقبُها أعمال أخرى أوسع خطى، وجوائز أكبر، ربما، تبقى "حي" رواية أولى راض عنها بشكل كبير، وغير راض عنها بالمرةِ، لأنني ممن لا يرون الكمال أبدًا، أظلُ أسعى وأسعى من أجل الوصولِ للعملِ الكامل، وهكذا، وبلا كلل، ولا أصل، وحتى أموتَ.


 
 

تعليقات

المشاركات الشائعة