القاهرة .. مدينة العجائز - سونيا والمجنون




القاهرة .. مدينة العجائز


مقال عن فيلم سونيا والمجنون
الفائز بأحسن فيلم من موسكو
عن رائعة
ديستوفيسكى الجريمة والعقاب

محمود ياسين ونجلاء فتحي - فيلم سونيا والمجنون




  ربما لم أشاهد فيلمًا عربيًا يأسرني مثلما فعلَ "سونيا والمجنون"، الفيلم الحائز على جائزة أحسن فيلم من موسكو عن رواية الجريمة والعقاب أمام منافسين قويين هما الفيلم البريطاني والأمريكي، والحائز على جائزة أحسن حوار من مصر. وبعيدًا عن الجوائزِ، فهنا سنجدُ فيلمًا مكتمل الأركان؛ ابتداء من المخرجِ حسام الدين مصطفى، والذي كان مولعًا بالتفاصيل الصغيرة، مثل دستويفسكي مؤلف الروايةِ، إلى السيناريست محمود دياب، والذي هضم الرواية الضخمة واستطاع تحويلها، وبشكل رائع، إلى فيلم قصير. ناهيك عن طاقم التمثيل، وبقيادة العملاق محمود ياسين، الذي استطاع أن يتقمصَ الشخصية، البطل المجنون، أفضل من أي مجنون آخر.



بعض المجانين في السينما

  وقبل أن أبدأَ بالثرثرةَ عن الفيلمِ، سأخبرُك سرًا
عندي مشكلةٌ.. أنا منحازٌ إلى مجنون سونيا، دومًا أنحازُ إلى المجانين. أرى أن مجنون سونيا هو المحق، وقناوي (مجنون هنومة) هو العاشق، وال joker , وMax بطل فيلم Mary and Max، وSweeney todd الذي قتل نصف المدينة، والمهرج والمهرجة في فيلم Cabaret، والمراهق العابث بطل فيلم A Clockwork Orange. أنا منحازٌ إلى المجانين، وأصدقهم، ولا أفهم لماذا يظهرون دومًا في الأفلام على صورةِ الأشرار؟



  مجرد فكرة عظيمة سيطرت على عقل البطل، مجنون سونيا، وهي، أننا، جميعًا، نستحقُ حياة أفضل، لكنها، القاهرة، مدينة العجائز، يحكمُها الشر. امرأةٌ مثل أم غريب تكنزُ المالَ والذهبَ في صندوقِها، والفقراء، هناك، في الشوارعِ المظلمة يأكلون من صناديقِ القمامة. القاهرة مدينةٌ ملعونة بجشعِها، الجميع يشهدون على هذه الحقيقة، لكنهم متخاذلون أمام بطشِ النظام. ما عدا البطل الذي يقررُ أن يثورَ، ويعيدَ ترتيب الأمورَ في نصابِها الصحيح. هناك من يستحقُ حياة أفضل، مثل سونيا، فتاة الليل التي باعت جسدَها، وأخت البطل، التي ستتزوج رجلاً غنيًا وعجوزًا ومقززًا، والفتاة الخرساء، التي تعمل مع والدِها في سنِ السكاكين.

  يصعدُ البطلُ الدرجَ إلى شقةِ أم غريب، وهناك يقتلُها بالساطورِ، تعلو موسيقى تصويرية رائعة، صاخبة ومزعجة، تتكررُ دومًا في مشاهد القتلِ، في المرة الأولى عندما قتلها، وفي الثانية، قبل مغادرة شقتها، عندما رآها تترنحُ في احتضارِها، ففزع منها، فزعَ، هو، القاتلُ منها، هي، القتيلِ. وفي المرة الثالثة تحضر الموسيقى عندما كان يقص لسونيا تفاصيل الجريمة، لكن لماذا فعل هذا؟ لا أقصد لماذا ارتكبَ الجريمة، بل لماذا تاب عنها؟ 

  الصراع هو السبب، الصراع الذي كاد يقتلَ البطل، ليس فقط صراع البطل مع ظابط البوليس، هذا الصراع الثلجي الذي جمعهما، معركة أعصاب، إن شئت أن تسمّها، والتي ربحها القط، ظابط البوليس، بالطبعِ. كان الفأر الأحمق يحوم كثيرًا، مثل أي مجرم آخر، حول مسرح الجريمةِ، حتى دخلَ في النهايةِ، ودون أن يدري، إلى المصيدةِ. لكن هذا الصراع البارد بينهما لم يكن شيئًا، بالمقارنةِ، بالصراع الأعظم، الساخن، صراع البطل مع نفسِه، والكوابيسِ، إذ صار هو عدو نفسه، صار نحيلاً، وهزيلاً، ومشوشًا، لم يعد يذكر، أين هو الطريق؟ ولهذا لجأ إليها، سونيا، كي يسترشد بضوء عينيها الجميلتين.


  عندما عادت موسيقى القتل، في المرة الثالثة، كان مجنون سونيا يقصُ لها الحادث، رفع يده للأعلى، بالساطورِ الوهمي، وهنا غمضت عينيها وصرخت إذ أنها رأت كل شيءٍ، الدماء، دماء أم غريب، المرأة العجوز التي قتلها بغية انقاذ سونيا وبقية مهمشين القاهرة. امرأة عجوز، خنفسة كما يطلق عليها، لكنها تظل روحًا. البطل الذي أراد تغيير الدنيا، وأن يصيرَ إنسان خارقًا، مثل نابليون، لم يستطع تحمل الجريمة، سقطَ وحده، من دون ظابط أو مطاردة، سقطَ وحده أمام بضعة كوابيس في الفراشِ، أمام الطبيعية البشرية الطيبة.


  اختلفت الموسيقى، عندما كان مجنون سونيا يعترفُ إليها نادمًا بما فعل، صارت موسيقى هادئة ومطمئنة، كأنها هي موسيقى روحها، روح سونيا، المطمئنة. وعادت هذه الموسيقى الهادئة، مرة أخرى، في مشهدِ النهايةِ، عندما كان مجنون سونيا يسيرُ مع الظابط إلى السجنِ ويودع سونيا بالنظراتِ الحزينة العاجزة. هل أخطأ البطل في ارتكابِ الجريمة؟ الفيلم يجيب عن هذا السؤال بالنفي، فالخطأ مشترك، سونيا الجميلة ليست بعاهرةٍ، لكن الواقع حكم عليها بهذا العقاب دون ذنب، ولن تجد من ينقذِها أبدًا. النظام ذو خلل عظيم، القوانين قاسية وداعرة، فكيف تحكم هذه القوانين ذاتها علينا، نحن الطيبون، بالجرمِ؟ كيف؟!


  بالطبعِ، أداء محمود ياسين العبقري، ونبرة الصوت الهيسترية، والتحركات العصبية المبالغ فيها التي كان يقوم بها، هي التي استطاعت أن ترسم شخصية مركبة ومعقدة مثل مجنون سونيا، هناك مشاهد لا يمكن للمرءِ أن يمل منها، على سبيل المثال، مجنون سونيا وهو يرفع يده للأعلى ويقول بنبرة وأداء هيستيري "أنا ضد الشر في هذه المدينة"، أو حين يقول بجنون "أنا أغبى إنسان في قاهرة 46"، ليس أداء محمود ياسين فقط الذي كان عبقريًا، بل أداء الجميع، حياة قنديل، الفتاة الخرساء التي تعمل في سن السكاكين، وأم سونيا، المرأة العرجاء والمريضة بالسلِ، والتي تعامل ابنتها باحتقارٍ بسبب قصر اليد، وسونيا، التي صدقتها وآمنت بطيبتها وبنورِ روحها، والرائع العظيم عماد الحمدي، الذي قام بدورِ الأب، أو الخنزير، الذي يسكر طول الوقت، ويتركُ هذه الأسرة للضياعِ، ونور الشريف الذي قام بدور الظابط، القط، أو الثعلب الهاديء. بالطبعِ هذه الكوكبة الهامة من الأبطالِ كان يحركُها مخرج مبدع وشغوف بالتفاصيل الصغيرة، ولهذا فإن هناك العديد من الأشياء الأخرى لعشاق التأمل، كل هذه الأشياء، وغيرها، جعلت الفيلم في رأيي من أفضل أفلام السينما المصرية.


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة