ثرثرة فارغة عن دلالة النعي



ثرثرة فارغة عن دلالة النعي

الموت في مقولتين - السياق والدلالة

 

"رقد على رجاءِ القيامة"
"إنا لله وإنا إليه راجعون"


 لؤي كيالي - فنان تشكيلي سوري


  كانت سيارة النعي تقول "رقد على رجاءِ القيامة فلان الفلاني"، عندما مررنا بجوارِها، فقلتُ شاردًا "أحبُّ هذه الجملة لمدى جمالها"، فاختلفَ صاحبي معي وقال "ليست جميلة على الإطلاق، الجملة الجميلة حقًا هي، إنا لله وإنا إليه راجعون"، وبالطبعِ لم أعرف العلاقة بين الجملتين، ولم أرَ سرًا يستدعي المقارنة بينهما، غير عقلية مغلقة تريد الانتصار لنفسها بإقصاء الآخر؛ إذ لا يعقل أن يكون لدى المسيحين نعيًا أفضلً مما عند المسلمين. المهم أنني بدأت أفكر في الجملتين، وأقارنُ بينهما، من حيث الدلالة اللغوية، وبعيدًا عن أي قدسية دينية أو تعصب أعمى؛ أي بعيدًا عن رأي صديقي الرائع "لو أن جملة المسيحين أجمل لاستعملها الله في القرآن الكريم"!
 هذا المنظور الأحمق الأحمق يجهلُ أن اختيار الله للكلماتِ في القرآن الكريم ليس مقصورًا على القيمة الجمالية، ولكن يهتم في المقامِ الأول بالقيمة الدلالية؛ إذ لا أهمية لجملة جميلة تعطي قائلها ومتلقيها معنًى مناهضًا ومناقضًا للمعنى الذي يريده، هذا ليس من البلاغة في شيءٍ.

  بقليلٍ من التأملِ، نجد أن جملة "رقدَ على رجاءِ القيامة"، هي جملة فعلية، تصفُ شخصا/ بطلاً، ماتَ ورقد، في الماضي، بانتظارِ القيامة، أي النهوض، برجاءِ شديد. هذه الجملة الموحية تتعامل مع الموتِ باعتباره العذاب الحقيقي، أي كابوس الإنسان المفزع، ولهذا فإن البطل هنا ينتظرُ القيامة بفارغِ الصبر والشوق والرجاء، هنا جملة تعلي من قيمة البعث، الحياة، باعتباره الهبة الإلهية الكبرى للإنسان، وتصف الموت وقلق الإنسان من الموت، بشكل وجودي، باعتباره كابوس الإنسان الأول والأخير.


  بينما الجملة الأخرى، "إنّا لله وإنا إليه راجعون"، هي جملة إسمية، مؤكدة بإن، تصفُ حقيقة مطلقة ومؤكدة وثابتة، إذ أن الجملة الأسمية على نقيض الجملة الفعلية تدل على الثبات، وهي تتعاملُ مع هذه القضية باستسلام وتسليم، إذ أن لا فائدة من مقاومة نواميس الطبيعة، هي جملة مليئة بالإيمان العميق والألفة مع نواميس الكون، ولا تدل على قلق أو فزع، ولا تدل سوى على أن الموت - بعد الخالق- هو حقيقة الحياة الوحيدة.



  إن الجملة الأولى، تعلي من قيمة الفرد، وقلق الفرد، من قضية وجودية خطرة، وهي الموت، وتعلي أيضًا من إيمان هذا الفرد بالحياةِ، بالبعثِ، وانتظاره لهذه القيامة برجاءِ شديد، بينما الجملة الأخرى لا تتعامل مع الفردِ، ولكن مع القضية المطلقة؛ أي مع الموت الذي سيصيب الجميع. هي تتجاهل الفرد وتشملُ المجموع، تهمسُ "لا داعي للقلق طالما أن الموت سيقبض أرواح الجميع"، وبعدها سنقفُ في يوم الحشر، حيث الزحام الشديد أيضًا، وننتظرُ حسابنا. بينما الجملة الأولى لا تهتم بالأخرين، لا تهتم سوى بهذا المسكين الذي يواجه الموت والوحدة وحده، وحتى القيامة.


  ناهيك عن إن استعمال المفردات هنا لدلالات ورموز تتعلقُ بالقصصِ الدينية، فعلى سبيل المثال، القيامة هنا، في الجملة الأولى، تستدعي إلى الذهنِ، وعلى الفورِ، قيامة المسيح باعتبارها معجزة كبرى، بعد ثلاثة أيام من الصلبِ، وهنا الفرد المسيحي ينتظرُ أن تتكررَ هذه التجربة، المعجزة، معه أيضًا. بينما المفردات في الجملة الأخرى لا تستدعي قصةِ أو معجزة بعينها، غير أنها تأمر بالصبرِ على المصيبة والسلوان.





تعليقات

المشاركات الشائعة