منافي الرب - موت بطعم البرتقال

رواية منافي الرب
موتٌ بطعم البرتقال

قراءة مصطفى الشيمي


  برؤيا مفزعة يستهل الخمايسي رواية "منافي الرب". رؤيا تورط القاريء مباشرة في الحدثِ. يدخل إلى قلب الرواية ليتابع بشغف حياة الرجل العجوز "حجيزي" الذي رأى الموت، أو رأى ما تبقى من الحياة، في هيئة ثلاث ثمرات. سيأكلها ثم موتًا يموت. من هنا تبدأ الحكاية في واحة "الوعرة"، الواحة التي يعيش فيها أبطالنا ونعيش فيها أيضًا – نحن القراء. الروايات العظيمة تكشف عن نفسها من استهلالها، وهنا استهلال عظيم لرواية عظيمة، وبالرغمِ من هذات فإن الخمايسي لا يكتفي بهذا الاستلال والامتلاك للقاريء، بل يقطع الزمن كيفما شاء، بحرية كبيرة، فيأخذنا هنا وهناك، إلى الماضي تارة، وإلى الحاضر والآتي، حتى تأخذ الرواية بنية بيت العنكبوت، وعنكبوتها هو الموت الذي يحاصر الأبطال، والقراء أيضًا الذين لا يستطيع الهرب من خيوط الرواية. تمتلكهم تمامًا وتمتزج البنية بالمضمون، ويصير الهروب من الموت، أو من متابعة القراءة، أمرًا مستعصيًا.
 الحرية التي يكتب بها الخمايسي والقدرة على التحرر من الزمنِ وامتلاك الكون: هي السهل الممتنع. السهل المتع. وهي التشر تشعر القاريء بأن الرواية تحكي نفسها بنفسي، يغيب الكاتب في ركن قصي، يموت فلا نحس بالكلفة والتصنع. هنا حكاية صادقة، وأبطال صادقون، بدائيون، ويشبهون لنا بعيدًا عن المدينة- الكذبة. نتعاطف مع تفاصيلهم الصغيرة، واكتشافاتهم الكبيرة: للمرأة وللجنس، للرب وللوجود، للموت وللخلود. يطل عليها الموت هنا باعتباره عزلة أخرى للإنسان، منفى آخر من منافي الرب، كأننا سنظل نعاقب على خطيئتنا لآخر الزمان.
   للماءِ دلالة مقدسة في الصحراءِ، وهنا شخوص من رمل لا من طين. تشربُ فلا ترتوي وتظمأ من جديد. الماء قليل وبعيد مثل السماءِ. والأبطال الرمليون يشتمون ويلعنون، وبالرغمِ من هذا فالنبوة جلية عليهم، والنبوة هي سر غربة الإنسان. تتشكل صخور المكان طول الوقت، كالصلصال، تبعًا لانفعال أبطالها. فتصير الصحراء حية ومتجددة. بلغة هي وليدة المكان. تتكيف اللغة عادة في الأدب تبعًا لبيئتها، لكن في الواقع، وفي رواية مثل منافي الرب فإن اللغة لا تتكيف فقط مع البيئة بل تولد وتنفجر وتمتزج بالمكان فتولده ويولدها ويصيرا معًا كتوأمي سيامي.
  تتقطع الحكاية الواحدة إلى مئاتِ الحكايات، ويطاردها القاريء لاهثًا. نسافر مع حجيزي في الرحلة الأخيرة إلى شجرة البرتقال، والتي هي خطيئة أخرى، ربما. هل يحق الإنسان، وبالرغمِ من كل الشرور الكثيرة التي يفعلها، أن يطمع في الخلودِ؟ والخلود صفة إلهية وعين جوهرها. لكن في منافي الرب لا نرى شرور الإنسان بقدرِ ما نرى شرور الربِ، في واحة مقفرة تنام على عين الرب الساهرة، تبدو السماء وحدها هي الشريرة والقاسية على أطفال الواحة وأهلها.
  وبرغم من غياب الكاتب طوال النص، لكنني شعرت بصوت الكاتب يعلو قليلاً عند ظهور المعزي. بالرغم من أن ظهور المعزي متسق مع الحالة الفنية وقضاء وقت مع القربان، لكنني شعرت بأن صوت هذه الحكمة عالية وتضع حلًا للرواية التي وصلت إلى زروتها ولهاجس الدفن الذي ظل يطارد خجيزي بطول النص، ليكشف لنا، ولحجيزي، بأن غاية الآلهة من وجود الإنسان هو أن يخلد ذكراه. وهي حكمة تناقضها الأحداث المليئة بالموتِ والشر الآلهي، بل تبدو عبثية وعدمية، إذ أن ذكرانا لن تنفعنا في شيءٍ والدود والحشرات سيأكلون رؤوسنا. وتبدو الأساطير القديمة أكثر صدقًا في سعيها للإجابة: بأن غاية الآلهة من وجود الإنسان هو أن يعذب. بالرغمِ من ولعي وتوقي للخلود، لم أصدقْ المعزي كثيرًا.
  ربما. انساق الخماسي لهذه الرغبة في مليء فراغ هذا الوجود بالمعنى، لكنها على أية حال اختلاف رؤى لا يغير من أنها رواية عظيمة، نرى فيها على امتدادها بؤس الإنسان والموت ينهش صدره وكبده وولده. إننا نكشتف في نهاية الروية بأن المسجد الذي يصلي الناس فيه لم يكن سوى سجن كبير بلا نوافذ، بناه العثمانيون لتعذيب الناس ، كإنها إشارة سيئة – للذي يؤمنون بالإشارات. هل يعذبنا الله طوال الوقت أيضًا؟ على أي حال هذه الرؤية التي انساق، الخمايسي، لها لم تكن وليدة هذا العمل فقط، ولكن رؤية تتسق مع مشروع الخمايسي – في مجمل الأعمال- التي تؤكد على ضرورة الفعل، برغم الموت والرمل والزمن، للوصولِ إلى المجدِ والخلود. باعتبار أن الفعل إن لم يجعل للموت معنى، فعلى الأقل يهبها لحيواتنا القصيرة. هذه رواية خالدة لن تنسى.

تعليقات

المشاركات الشائعة