ذكريات النوم القديم والكتابة عن الكوابيس

ذكريات النوم القديم
والكتابة عن الكوابيس
قراءة مصطفى الشيمي

رواية ذكريات النوم القديم لعمرو عبد الكريم



"النوم هو الكوابيس"، هذه الجملة القصيرة هي البذرة التي انفجرت إلى مبانٍ وأشباح، وهي جملة تحتوي فلسفة الكتابة لدى عمرو عبد الكريم، صاحب رواية ذكريات النوم القديم. فالنوم هو طريقنا إلى السلامِ والهروب من الواقع، والأحلام ما هي إلا رموز لما رأيناه طوال اليوم في واقعنا السيء والمقزز، فإذا صار النوم – طريق الهروب الوحيد- ليس سوى كوابيس، فأين الهرب؟
كتابة كابوسية. هذه المدرسة التي لم يطأها الأدب العربي كثيرًا، فظل قارئها – المتفرد- يبحث عنها في كتابات غربية مثل كافكا وغيره. هذه المدرسة التي ينتمي إليها عمرو عبد الكريم، متغربًا، عن كل الكتابات الأخرى التي تكرر لونا واحدا، والتي يحتفي بها النقاد باعتبارها القالب الأفضل للأدب. وحقيقة الأمر أن الكتابة الجيدة الحقيقة لا قالب مسبق لها، والكتابات التي تخرج عن الصندوق والسائد هي التي تستحق الاحتفاء بها.

أجاد عمر عبد الكريم خلق هذه المدينة المليئة بالمباني التي تبدو كالأشباح في مدن خالية من الناس، ومليئة بالأشباح، وأعمدة الإنارة التي تتحدث مع بعضها البعض. كتابة لها منطقها الخاص، عليك أن تترك عقلك وتستسلم لسطوة النص عليك، وفي الحقيقة فإنك لن تبذل جهدًا لفعل ذلك، لأن الكتابة الجيدة تجبرك على ذلك؛ تخلع عنك رأسك، وهذا الثقل الجاثم على ظهرك، فتلقي بالكوابيس في صدرك. هي لا تريدك أن تنام هادئًا، هي كالوباء، وباء أصاب أبطال ذكريات النوم القديم، والمفزع هو أنك لن تنجو أيضًا برغم أنك خارج النص.

الصورة الكابوسية هي مبتغى عمر عبد الكريم من كل فصل، وربما من النص، فبعيدا عن السريالية التي تحكم الرواية بأكملها، إذ للأشياء منطقها الخاص، تماما كالكوابيس، إلا أن كل فصل يمشي حتى منتهاه ليشكل هذه الصورة الكابوسية التي تبلغ ذروتها، فتشعر أنك تشهق، تنتفض، وتستيقظ، لكنك لا تفعل ذلك. تدلف إلى الفصل التالي، وتظل تهرب من الكوابيس. ""هذا العالم قاس يا مي، لا أحد يحب أحدًا"، هكذا قالها صابر الذي كان مهووسًا بقتل الكلاب في المدينة. قالوا "مجنون صابر"، لكن صابر لم يكن كذلك. الكلاب تملأ الشوارع، تغتصب الحيوانات الأخرى، خاصة العرس، والشوارع مليئة بأعمدة الإنارة التي تتحدث، وكذلك الساعات في البيوت والمحلات. وأشرف – أخو مي- يرى النمل يأكل كل شيء. "الأخضر، اليابس، الماء، السكر، الزمن". الشعب كسول، وهناك قرار سياسي بإعدام كل فرد غير صالح في المجتمع. وفي غمرة هذه الكوابيس والهواجس الشخصية للأبطال فإن القاريء يضيع تماما، يهرب من الصور الكابوسية حتى يصل إلى منتصف الرواية فيمسك بالزمن، ويجد الخيوط التي تربط الأبطال ببعض، وهي خيوط واهنة على أية حال، وهذا مقصود.
الزمن في الرواية مراوغ، فالرواية تبدأ من التاريخ المنسي للأبطال، يأخذك إلى حقبتين، قبل ميلاد ليلى وبعد ميلادها. ويمكن تسميتهما بـ قبل الثورة وبعد، أو قبل نهاية العالم وبعد. وبعد نهاية العالم ثمة حياة لا تزال، لكنها حياة لها منطقها الخاص الذي تكون من خلال أبطال مروا بهواجسهم فقتلتهم أو صيرتهم إلى اناس آخرين. هذه الهواجس تتحول إلى منطق يحكم العالم أجمع. فلا تعجب عندما تدرك لغة الأشياء/ الجماد، ولا تحاول أن تنكرها، هذا الجنون يصير مفهومًا، يصير هو المعادل الموضوعي للثورة، فأما العقلاء فهم مستسلمون للكلاب وللجنرال وجنوده، ولكلاب الشوارع التي تغتصب العرس.
لغة عمرو عبد الكريم لغة جيدة، كثيفة وموحية، شابها بعض هنات النحو هنا وهناك، لكنها تظل لغة خاصة وحية. تنطق بروح الأبطال ولسانهم، وتتوحد بهم في السرد، وتوحد القاريء بالأبطال لا سيما أن هواجسنا واحدة، ونحن ابناء منطقة تنفجر بالحروب والثورات. فتعلو بنا – القراء والأبطال- وتهبط وفقًا للحن متناغم ممتع. كذلك فاللون الحاضر هو اللون النبيذي- وهي مفردة مميزة في معجم الكاتب- فهو لون العربات في الطرقات وفستان ليلى – بطلة الحفل التي تخطط للقنابل الملونة التي ستملأ السماء. وهو لون يحمل مذاقا مسكرا.

ذكريات النوم القديم من الروايات التي لن تنسى في الأدب العربي، استطاع عمرو عبد الكريم أن يقدم نفسه بصورة جيدة، وإن لم يتم الاحتفاء بها بشكل مناسب، فربما ينتصر الزمن لها، على النمل، ويترك لنا قطعة السكر.



تعليقات

المشاركات الشائعة