موت أرق .. موت كامل

موت أرق .. موت أكثر كمالًا


قراءة مصطفى الشيمي

مجموعة موت أرق، تشي بكاتب قادم؛ يمتلكُ الرؤية في فن القصة القصيرة بشكل مكثف، ودون ترهل في الأحداث، ويكتبُ القصة القصيرة كما أحبها،  كجرعة مركزة. تبحث قصص المجموعة عن فكرة الكمال، وهذا البحث يكشف عن النقص بداخلنا، ولا يقودنا إلا إلى النقص،أي الإنسان. ومن القصة الأولى "نبوءة العدوي" نتقابل مع الموت، في حياة قصيرة لا تتعدى حدود الذكرى، التي لا تنسى، عن العقدة الأولى المربوطة، عقدة الحب. ونتقابل مرة أخرى مع الموت باعتباره كائنًا رقيقًا، والرقة هنا هي رقة الذكرى، الحياة القصيرة، إذ يقف الطفلان أمام جدتهم في لحظاتها الأخيرة، وحتى موتها الذي يجعل الخط يستقيم، ويجعل الصفير يستقيم كذلك. اختيار لفظة يستقيم هنا لم تأتِ عبثًا، كأننا قبل الموت نترنح في حيرة، أو دائرة، والموت يجعلنا نمشي على الخط؛ نستقيم ونعتدل، على أمل أن هذا الخط المستقيم يقودنا إلى أنفسنا. الموت يبدو أكمل من الحياة، الحياة التي لا تهبنا كفًا قويًا، ضخمًا، خشنًا، بل تعطينا كفًا رقيقة، وأصابع غير متسقة، ومصائرنا تحددها كف أيدينا؛ فمن حددها؟ ومن رسمها على هذا الشكل؟ في قصة نصف اكتمال، نرى بطلا مهوسًا بمراقبة أكف الناس، ومحاولة الوصول إلى كف يد مناسبة، ونرى أيضًا السلطة الأبوية/ الأب/ الإله، وهي يملك هذه الكف، لكن بدلا من مساعدتنا يضربنا بها. السلطة الأبوية حاضرة على امتداد العمل، ونقابلها في قصة موت أرق؛ الأب الذي يحاول منع طفليه من الصعود إلى سيارة الأسعاف، لتوديع جدتهم، الأب الذي كان يحاول أن يمنعهم من الذكرى، ونرى في قصة يأتي متأخرًا، حياة بطل كاملة، لا يصل فيها إلى شيء، حتى وفاة والده؛ يعرف ماذا يريد أن يصبح، لحظة التمرد الحقيقة لا تأتي إلا بوفاة الأب، كأنها الأمنية المشتهاة، الأمنية المدفونة في بئر غويط من اللاوعي، من الكبتِ.
 كأن الكاتب يرثي الإنسان قبل أن يموت، يذكره بطريقة أو أخرى، بالتجاعيد الصغيرة التي تتسلق جلده، وبتغيرات جسده: كالسمنة، وهو رثاء لا يبطن الرحمة، بل القسوة الشديدة، أو الحقيقة العارية. في قصة جينز أزرق، نرى البطلة السمينة التي تدخل إلى محل ملابس، وترغب في شراء جينز أزرق؛ قابلها منذ عشرة أعوام، وأعجبها، لكن الفرصة فاتتها وقتها، فلم تفعل، وإن ادعت عكس ذلك. إنها اليوم تشعر بالحسرة، فالحياة تسخر منها، وتجد الجينز الأزرق، وقد صار قديمًا، والأزمة أكبر من هذا، فهو لم يعد يناسب جسدها، هي اليوم سمينة. إنها مسكينة، تحاول السير عكس مسار الزمن، استعادة لحظة جميلة من عمرها، تحقيق أمنية قديمة، وبسيطة، مجرد جينز أزرق!
اختيار اللحظة الجديرة بالحكي، هي أهم ما يميز القصة القصيرة عند أحمد الجمل، لحظة تحمل من الإيحاء ما يكفيها، وبلغة سلسلة، غير مثقلة بالحشو، يعبر عن تلك اللحظة القصيرة؛ هذه هي القصة القصيرة كما يراها الكاتب، القصة المركزة، القائمة على قنص اللحظة المناسبة
، مع نهايات تعلو بها، فلاش، ومضة مفارقة  تصنع حالة من الصدمة تترك أثرها على القارئ.. اختار الكاتب اللغة العامية في الحوار، باعتبارها أقرب إلى روح القراء أو الأبطال؛ ولتحقيق المعايشة. وكان يستخدم الحوار لكسر الإيقاع؛ أي صنع صوت مغاير. صوت يكسر رتم السرد ويدفع الرتابة بعيدًا، وإن لم يدفع بالحدث للأمام؛ فاهتمام الكاتب-كما أسلفنا- كان منصبًا على الإيقاع. وفي ظني أننا سنرى، في المجموعة القادمة، توظيفًا آخرًا للحوار، وتجريبًا أكبر على مستوى اللغة، فهذه هي غواية الكتابة لنا.
 مجموعة موت أرق، تبشر بموهبة جديدة، تمتلك أدواتها، وتحاول اكتشاف طريقها؛ ورغم أنها المجموعة الأولى للكاتب، لكنها  ناضجة، تعطي درسًا قاسيًا لبعض القصاص، الذين ينشرون ما لا يستحق، فكاتب هذه المجموعة يمتلك أهم ما يميز الكاتب، وهو الوعي.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة