لعبة الاستعارة في رب الحكايات


لعبة الاستعارة في رب الحكايات


قراءة مصطفى الشيمي







ابتداء من عتبة النص يجيبُ الكاتب عن سؤال على لسان القارئ، قبل الشروع في فعل القراءة، وهو "سيقول العقلاء من الناس ما جعلك تدون حكايتهم؟"، بلغة تتناص مع النص القرآني، وتسأل عن الغاية والعلة، "لماذا"، "ما الحكمة"، فتكون الإجابة هي: "قل للكاتب ما يريد"، فالكاتب يلجأ إلى مقام الكاتب، منزلة الربوبية، باعتباره خالق الأبطال ومصائرهم؛ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، واللجوء إلى هذا المقام يشي أن الكاتب يدرك تمامًا استناد السرد في رواية "رب الحكايات" (رواية -دار العين) على منطق سردي مغاير؛ يقوم على الصدفة، الحظ، القدر، لتفسير صيرورة الأحداث، وهو منطق هزيل في جنس الرواية، وانطلاقًا من مقولة "باختين": "كل رواية هي نوع أدبي في ذاتها، وجوهرها يكمن في فرديتها وخصوصيتها"، فإن عمرو عاشور يخوض هذه المغامرة، بكتابة أربع قصص، فينسب العمل إلى جنس الرواية من خلال روابط سنشير إليها؛ غير أن الجزء الثاني من مقولةباختين هي إشكالية هذه القراءة، خصوصية الرواية وفرديتها. 

في كتاب "فن الشعر" يشير أرسطو إلى مفهوم شمولي هو مفهوم المحاكاة، باعتباره تقليد أو تمثيل الفعل، والفعل هو أشياء كما كانت، أو كما نظن أنها تكون، أو كما يجب أن تكون؛ وبالتالي فإن هذه المحاكاة تخرج معنى مناقضًا للواقع في رأي بول ريكور؛ الذي يشير أيضًا إلى أن السرد بمعناه الواسع يدخل مع الملحمة والدراما في هذا المفهوم باعتباره موضوع فعالية المحاكاة، وفي "رب الحكايات" فإننا لا نجد الرواية تستهدف محاكاة الفعل بكل صوره في الواقع (الممكنة/ غير الممكنة)، قدر ما تستهدف محاكاة الفعل المتخيل في عوالم ألف ليلة وليلة، وتستعير في هذه المحاكاة بنية ألف ليلة وليلة ومنطقها السردي وعالمها الغرائبي بأساطيرها، ولغتها (في كثير من الأحيان)، وفضاءها المكاني والزماني، فلا نقف أمام تناص، بل نقف أمام استعارة كاملة لعمل فني من أمهات الكتب، وسنجد ذلك ابتداء من القصة الأولى "الجنة والدنيا"؛ التي تقوم بنيتها على بنية العلبة الصينية أو الدمية الروسية "ماتريوشكا"، كما أسماها يوسا"، وهي العلبة التي تتضمن أشكالا مماثلة لها، وأصغر حجمًا، في متوالية تمتد إلى ما هو متناه في الصغر، وبلغة أخرى فهي القصة الرئيسية التي يتولد منها قصص فرعية عديدة، وهي البنية التي وصف بها ألف ليلة وليلة، وتبدأ قصة الجنة والدنيا بالسقا الذي تنتظره امرأته، وقد اشتهى ما هو أبعد من طعامها الشهي، اللذة الخالصة للجنس، لكنها لا تفهم مراده، فتقول "كل ما يسد الجوع طيب" صـ 9، وقبل أن يتشاجر مع امرأته يكتشف وجود زهرة الصغيرة مختبئة أسفل الفراش، ويقرر دفنها في الرمل كعادة العرب القديمة لأن "التلصص طبع العاهرات"، ودون مقدمات، أو محاولة للوقوف أمام مثل هذه اللحظة وتأملها، الوقوف أمام الدوافع وتفسيرها، يفرض منطق السرد علينا قيوده مسبقًا بمشيئة الكاتب، ونجد زهرة تسعى للهرب مع أخيها جلال، ويقابلان ربان السفينة الذي يقرر أن يأخذهما معًا، ويتم ذلك عن طريق الصدفة، سيدة المنطق السردي في هذا العالم المتخيل، وتغرق السفينة في ليلة عاصفة، ويجد جلال وزهرة أنفسهما، وحيدين، في جزيرة لا يسكنها أحد؛ وفي الجزيرة نرى الصندوق ينفتح على حكاية جديدة؛ سبعة كهوف، مكتوب على كل كهف لوحة: كهف الطعام، كهف الشراب، كهف النوم، كهف الملابس، كهف العقاقير والأعشاب، كهف الكتب، وكهف بلافتة هنا الشر؛ لا تدلف، في تناص بسيط، وظاهر، مع شجرة الخلد أو شجرة معرفة الخير والشر، ويكتشف البطلان أجسادهما، فورة الشهوة، ويبدوان كآدم وحواء، غير أن رابطة الأخوة تحول بينهما، وتقرر زهرة دخول الكهف، فتكتشف الجني المقيد من خصلات شعره، والذي يضاجعها، وتقرر قتل أخيها في محاولة للحفاظ على ابنها، ابن الجني الذي يكبر ويخبر خاله، بمشيئتها، فيقتلها، وبهذا ينفتح الصندوق على حكاية جديدة وهي حياة جلال بعد زوال لعنة الجني، إذ يعمل خادمًا عند امرأة وابنها الطفل السمين، سيده حيين، الذي يأكل كل شيء، فيأتي الجني ابن زهرة ويتدخل وينقذه مرة أخرى من بطش هذه المرأة الظالمة، وينتقم منها. هكذا تظهر بنية العلبة الصينية، بقوة، من خلال الحكاية التي تفتح الباب لحكاية أخرى، ويبدو المنطق بسيطًا؛ منطق يليق بالخرافات والحواديت، ونجد أيضًا البنية تتكرر مرة أخرى في قصة "حكايات وطقوس"، فالأمير يدخل إلى مدينة معلقة عليها الرؤوس ويسأل عن سرها فيجيب الناس "لنا أميرة تدعى ذات الجمال والحكمة، وكان مهرها عجيبًا وبسيطًا، فكل ما على المتقدم أن يسألها سؤال"، صـ 167، وهكذا إذا أعجزها السؤال تصير الأميرة زوجة للسائل، غير أن السلطان يصدر فرمانًا بقطع رأس الخاسر، وهنا "تأتي المخاطرة، الشق الأصعب في اللعبة"، ويقرر الأمير خوض المغامرة بدوره، ويسألها عن فزورة لا تعرف حلها، وبهذا يتزوجها، وقبل الزواج تسأل عن إجابة الفزورة، وتكون إجابة الفوزرة هي الصندوق الجديد من اللعبة الصينية، حكاية تدور "عمن لبس أمه، وركب أبيه، وأكل من قلب الميت حيًا، وشرب ماء لا في الأرض ولا في السماء"، وتبدأ بحياة الأمير الذي لم يكن أميرًا، بل ابن اسكافي. 

إننا نرى إذًا، أن الاستعارة في رب الحكايات، لم تأخذ فقط العالم الغرائبي، الخرافي: عالم الجان والماردين، والسحرة، والطيران فوق بساط الريح، وطاقية الاخفاء، وعقلة الأصبع، والغيلان، وأمنا الغولة، والقضبان، والجواري، والأميرات، والسلطان، بل إن الاستعارة قد امتدت أيضًا إلى بنية النص، وقد نرى أيضًا عدم الاهتمام بالفضاء الزماني والمكاني، وهي سمة من سمات ألف ليلة ليلة، في مقابل الاحتفاء بالحدوتة؛ فالزمان يلوح من خلال السلطان والأميرات، والعملة المستخدمة: الدنانير، هو زمن ممتد من نص آخر متخيل؛ حيث الأشياء تحدث جزافًا، صدفة، لا قدرًا، "هو يؤمن بالصدفة أكثر، الصدفة التي أوقعته في طريق الجثة" صـ 123، كما في قصة الجسر، والصدفة هي وإن كانت منطق السرد في الحواديات، والخرافات، والحكايات، لكن منطق السرد يختلف في عالم الرواية، وهو الأمر الذي دفع الكاتب في عتبة النص للرد على ذلك: للكاتب ما يريد، وهنا نتطرق إلى التصنيف؛ هل نحن أمام رواية؟ البنية الغرائبية والخرافية لهذا العالم تصنع وحدة معنوية، ربما لا تكون كافية، لكن هناك خيوط واهية أراد الكاتب أن يجعلها تربط بين القصص، بعض الأبطال في القصص يذكرون ما حدث لأبطال القصص الأخرى؛ كأنهم تحولوا إلى أساطير أو مُثل، لأبطال هذا العالم. وفي ظني أن مثل هذا لا يعد كافيًا، كان يمكن تصنيف العمل باعتباره حواديت، حكايات، نصوص، وإن كانت كل رواية تعد نوعًا أدبيًا في ذاتها، لكننا نقابل إشكالية تتمثل في خصوصية العمل الفني وتفرده. 

ما الجديد إذًا؟ إذا كانت بنية العالم وأساطيره مستعارة، فلا يتبقى أمامنا غير المضمون، فالموضوع مشترك أما المضمون فخاص؛ وهنا يسخر المضمون من عالمنا، منّا كأبطال لسارد عليم يحركنا كيفما شاء، نرى هذا من خلال موقع الراوي، باعتباره رب الحكايات، الذي يتدخل، في بعض الأحيان، للتعليق على مجرى القصص؛ فيقول "هكذا يود الراوي!" صـ 45 في قصة الجنة والدنيا، ويقول أيضًا في قصة "الإنسان البدائي"، "لكن عليه أن يحذر من القطط والحيوانات التي يمكن أن تفوقه حجمًا، فليس من العدل أن يأكله فأر قبل أن يصل إلى حلمه الأثير، لست قاسيًا إلى هذه الدرجة"، صـ 111، غير أن الراوي الذي يتحدث عن العدل، وينفي عن نفسه القسوة يقول في قصة الجسر عن البطل قبيل لحظة الإعدام ظلمًا: "يرفع السيف عاليًا.. (هو في حاجة لمعجزة لن أحققها له) ينزل السيف بقوة". صـ 163، ويقول أيضًا في القصة ذاتها "لقد وقعت في يد من لا يعرف النهايات السعيدة"، فلماذا؟ لا إجابة على هذا السؤال، إنها سخرية من الحكمة البعيدة عن أعين البشر، وسخرية من العدل الذي يتأرجح وفقًا لمزاج رب الحكايات. هنا نرى المضمون؛ نرى رؤية العالم، بطريقة ساخرة، من مصائرنا، وأحلامنا، من العدل والحكمة والمنطق، ومن معاني الحياة كلها، عن طريق الاحتفاء بالحكاية؛الحدوتة، في أبسط صورها، دون تعقيدات أو فلسفة، إنها دعوة للإيمان برب الحكايات والهذيان.




تعليقات

المشاركات الشائعة