الصورة وأسطورة المكان في رواية صخب البحير

الصورة وأسطورة المكان في رواية صخب البحيرة

منشورة في مجلة عالم الكتاب عدد مارس 2018

https://scontent.fcai1-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/35553319_10156118061947203_7647745339943813120_n.jpg?_nc_cat=102&_nc_eui2=AeGXdG4cO2zQpO3W7h5hoRNkKNaFBVR1xtQ3sLg5CX480LnveToxXNkNIZQGbkb4ZjdiE6No5DBqTtPQdGtwax5RdBBkIRVt9rjKwR3AbUwi6Q&_nc_ht=scontent.fcai1-1.fna&oh=bac219387ea71c6245c837e2573a45c3&oe=5CDC3AE1

قراءة مصطفى الشيمي

  في القرن الثامن عشر قام الفيلسوف التنويري "إفرايم ليسنج" بتصنيف الفنون، بطريقة مختلفة عن أرسطو الذي صنفها وفقًا لمادتها، إلى فنون مرئية كالفن التشكيلي وفنون مسموعة كالموسيقى، أما ليسنج فقد حاول إدراك علاقة الفنون بالزمن، في كتابه الشهير Laokoon (العنوان مقتبس من أسطورة الكاهن الذي أفشى أسرار الآلهة)، وفي هذا الكتاب صنف ليسنج الفنون إلى زمانية، ومكانية، الفنون الزمانية كالموسيقى والشعر، والفنون المكانية كالعمارة والتصوير، وقد قام شوبنهور بتصنيف مماثل، ويرجع ذلك إلى تصور الزمن بصورة مطلقة في الفن التشكيلي، لقطة خالدة، مصطفاة، لا بعدها أو قبلها شيء، ولا تقوم على التتابع كالموسيقى أو السرد. غير أن انعدام الزمن أو وجوده بصورة مطلقة، أبدية، لا يعني غياب الحركة؛ بل إنها حلت محل الزمن،  من خلال الخطوط والنقط والألوان ولعبة الظلال والضوء، واختيار اللحظة المفعمة بالنشاط والفعل، ومن هذا الهاجس ولدت مدارس مختلفة.
  في رواية "صخب البحيرة" نرى الزمن يخلق وجوده عن طريق الصورة، التشكيلية، فتبدو لنا البحيرة مطلقة أو أبدية؛ رغم وجود الحركة التي تصنعها الأفعال المضارعة  "تتهادى/ تزداد/ تتلاحق/ تكتسح"، فإننا نقف أمام بؤرة للعمل، كأنها كعبة مقدسة، تخلق الأبطال من الماء –من روحها؛ كما يفعل الماء في كل الأساطير القديمة فتخلق الزمان أيضًا والحكايات. قد نُسقط أساطيرنا واعتقاداتنا على هذه البحيرة، لكنها تبدو لنا أبدية ومطلقة. ونرى البساطي يلعب، كفنان تشكيلي، بالألوان والظلال والضوء لخلق الحركة مع الأفعال المضارعة، لكن هذه الحركة لا تنفي عن البحيرة أبديتها. في صـ 9: "تتهادى مياه البحيرة لدى اقترابها من البحر. شاطئها البعيد الذي يغيب في الأفق ينبثق مسربلاً بالضباب ثم يبين بلونه الرمادي الباهت كاشفًا عن تعرجاته ونتوءاته وينثني في انحناءة حادة داكنة بلون الطين"
  الألوان والخطوط والنتوءات حاضرة في الصورة، بلغة تشكيلية، لا تعمل – فقط- على إبطاء الزمن قبل تتابع السرد، لا تأخذ استراحة زمنية قدر ما تحاول إيقاف الزمن وتخليد اللحظة، هذه سمة الصورة التشكيلية؛ فهي تحتل جوهر لحظة ما وتجعلها دائمة. وعند تتابع السرد، وبحضور الأبطال، فإن اللغة تلجأ إلى الجمل القصيرة المتوترة، لوصف ما يسكنهم من مشاعر غامضة، خفية. يمكننا فهم هذه الرغبة في تخليد الصورة إذا ما عرفنا أن البساطي عاش في صباه وسط هذه الجزر، في البحيرة، هنا تلعب الذاكرة دورها، فلا تأخذ الحقيقة كما هي، بل إنها صورة منها، دخلت في عملية الصياغة الذهنية؛ الحذف والتعديل ولعبة الحقيقة والزيف وتم إنتاجها من جديد. إنها تأسطرها بطريقة ما. فكما كان الماء هو المطلق، بوجوده وجد الأبطال والعالم، نجده يشارك بدور فعال، فيرسل البحر النفايات في قسم "النوة"، ويبحث فيها جمعة وامرأته، ويجد في النفايات صندوقًا ينطق بلغة لا يفهمها أحدٌ، يقول جمعة "لا أحد سيعرف كلام الصندوق" صـ 75، وفي صـ 82 يتشاجر مع الصندوق، الناطق، حامل أسرار الماء، التي لا يفهمها أحدٌ، فيقول جمعة "وما أدراك. مئات السنين. آلاف وأنت في القاع. ما أدراك. كم مرة خرجت فيها"، فيبدو هذا الصندوق كروح عليمة، ناطقة، مثل وحيّ، رسالة مجهولة يحملها جمعة على ظهره فيهيم في البلاد، ما الرسالة؟ ما مغزاها؟ أين ذهب؟ هذه أسئلة لا إجابة لها في النص، فالنص يوحي ولا يقول شيئًا محددًا، وهنا نرجع إلى طغيان الصورة، المطلقة، المليئة بالإيحاء، والتي تترك للقارئ حرية التلقي؛ فالفن، في نظر تولستي، يثير في المرء شعورًا سبق أن جربه، كأن هذه هي غاية النص عند البساطي، أن يمسك بهذا الشعور، وبقول ماكس بيكمان "إذا أردت أن تدرك اللامرئي، عليك أن تتغلغل وتخترق الأعماق، بقدر استطاعتك، نحو المرئي". وإذا كانت الصورة التشكيلية تحمل في طياتها جوانب خفية وأبعاد موسيقية، ونصية، ومعرفية مجردة، لا تراها العين بنظرة خاطفة، فإن ثمة أزمة في قراءة الفن التشكيلي، لا ينجو منها نص البساطي الذي يلجأ إلى الصورة بدرجة كبيرة، فقد يشعر القارئ بالغموض، والغموض في قول فريال غزول "يكاد يكون سمة النصوص الباقية، لا الزائلة"، وهذا الغموض لأن النص قائم على الإيحاء، ويريد الوصول إلى خبرة القارئ الحسية باعتبارها منطق الاحساس والشعور الجمالي، لا الخبرة المنطقية العقلية، وقد نرى ذلك في القسم الأول، فالبطل صياد عجوز، ذو حكاية مجهولة وحزن دفين، ولا يستطيع القارئ الوصول إلى سره، وبدلا من ذلك يخبرنا النص بحكاية المرأة التي تعيش في العش التي قام ببنائها إلى أن مات، وتختاره المرأة لتقص حكايتها وولديها، ربما لأنها تعرف أن هذا الرجل ينتظر قدره، وفي النهاية تدفن أسرارها مع الرجل وتهيل التراب. ما حكاية الصياد؟ لا يعرف القارئ لكنه يشعر بحزنه، مثلما يشعر بالفزع الذي دار في أعماق جمعة بعدما وجد الصندوق.
  يمكننا قراءة فزع جمعة باعتباره، زلزلة الوحي، لا ينقصنا غير أن يقول "دثروني"، فالبطل يعاني من نبوة، غريبة ومجهولة المصدر. ولم يكن وحده، النبي، فأبطال هذا العالم يعانون من نبوة مماثلة، لا يعرفون الغاية منها، كأن النبوة هنا هي الحياة، رغم أنهم أبطال مهمشون، وبسطاء، لكن النص يصطفيهم، وقد نفهم هذا إذا رأينا أن البساطي يرسم صورة كلية وبانورامية للمكان، ثم ينزل إلى الأرض، إلى الأبطال، ليبرز وجودهم من دون الجموع الكثيرة، وثم إشارات أخرى إلى أسطورية الأبطال، فجمعة قادر على معرفة تاريخ الأشياء من ملمسها، ويستمع إلى صوت من صندوق البحر؛ صحيح أننا أيضًا نستمع إلى هذا الصوت مع أهل القرية، الذي أصابهم الهوس، لكنهم لم يفهموه، بينما بدا على جمعة إدراك الرسالة بالسفر بعيدًا. وقد نرى أيضًا النبوة في الصياد العجوز إذ يقول السارد في صـ 11 "لم ير أحد قاربًا شبيهًا له في أنحاء البحيرة العرضية"، وأشياؤنا تشبهنا وتحمل بعض من أرواحنا.
  هذه الروح الأسطورية الممتدة، يؤكدها الوصف، ولا ينسى شيئًا من تفاصيلها، فهي مهمة، رغم هامشية مثل هؤلاء الأبطال في الحياة، صيادون أو أهل قرية بسطاء، مما يجعل من الواقعي بأطره المادي هامشيًا ويجعل من أبطال هذا المكان، البحيرة، متنًا. وقد يشعر القارئ بالغرابة والغرائبية في هذا العالم، أو بالواقعية السحرية، في قسم النوة تحديدًا، بينما لا يشعر البساطي بالغرابة أو بالغرائبية أو بالواقعية السحرية تحديدًا (كما أشار في حواره بالأهرام)، وهذا مفهوم، لأن الغرابة لدى هيدغر هي "ذلك الطابع الجوهري لوجودنا في العالم، لأننا لسنا في بيتنا، عالمنا، بل في حال دائمة من القلق"، أي أن هذا الشعور يلازم الغريب، أو القارئ، الذي يتجول بعيدًا عن البيت، أو العالم كما اعتاده، من خلال استكشاف عالم هؤلاء الأبطال، وبيئتهم، ومنظومتهم الثقافية التي تختلف عما يعرفه، وبهذا فهو بعيد عن المألوف والآمن، فمن المفهوم أن يشعر بالغرابة والغربة، والبساطي لا يشعر بهذه الغربة أو الغرابة أو الغرائبية، أو السحرية، لأنه يشعر أنه "تمامًا في البيت"، آمن في الطفولة، كما حاول الحفاظ عليها. لقد خلقت البحيرة الناس حولها، والأسواق، والصيادين، والعادات والتقاليد، فرأينا بالنص استناد على الفلكلور والتراث، وانتصر البساطي للغة المحملة بالمخزون الثقافي، والمفردات الحيّة، ابنة بيئتها، على امتداد العمل. ومع الحفاظ على الحياة اليومية، المعاشة، المعتادة، مزج بها الغرائب، وعمل على إيهامنا أن هذه الغرائب جزء أصيل من الواقع، وهي إن كانت جزء من الواقع لكنها خفية، غير مرئية، والنص هنا يبرزها ويحولها إلى صورة.
  الوصف عند البساطي يقوم بوظيفة إيحائية ويقوم عند محفوظ بوظيفة إيهامية، بواقعية العالم الروائي، وقد قال محفوظ عن ذلك: أن أكثر التفاصيل صناعة لإيهام القارئ بأن ما يقرأ حقيقة لا خيال، إذ أنه يثبت الموقف أو الشخص كحقيقة"، والحقيقة عند البساطي هي صورة الحقيقة، صورة يعاد خلقها من خلال الذاكرة، ينتصر فيها للفن؛ وقد نرى في وظيفة الوصف عند البساطي ما يتفق مع أصحاب الرواية الجديدة في فرنسا، فالوصف ليس وسيلة للتزيين أو الإيهام بواقعية النص، بل غاية تجسد المكان والأشياء، ويوحي بعمق العلاقة بينهما بعد سقوط الإنسان في الرواية الجديدة، وهو سقوط يجعلهم في الهامش، لا البؤرة، وكما قال آلان روب جرييه؛ (من أبرز أعلام الرواية الجديدة: كان الوصف في الرواية الكلاسيكية وسيلة لتحديد إطار الأحداث والشخصيات ولإبراز ملامح الإنسان ولنقل واقع معروف من قبل، فأضحى كما يقول خلاقا مبدعًا للمعنى أو المحتوى، يختار بقصد أقدر الجزيئات المميزة على أن ترى الموصوف، فأضحى يعني بالأشياء الصغيرة ويتعلق بالجزيئات جميعًا ما كان مميزًا وما لم يكن، ويرتبها ترتيبًا معينًا، فيكرر الصورة الواحدة مرات مضيفًا إليها هنا حاذفًا منها هناك، وإذا بالصور تتناحر، وتتنافى، ويلغي بعضها بعضًا، وإذا بنا لا نرى الشيء ذاته ولكننا نرى شيئًا آخرًا، وإذا بالوصف يطغى على الكتاب ويصبح هو الرواية"، وتقول الناقدة مها حسن عن مادة الفن عند أنصار الرواية الجديدة "ليست في الذات بل في الموضوع، ولا تقوم بتصوير فعل الإنسان في الشيء، بل انفعاله بهذا الشيء، وتركيز الرواية على الشيئية يعد شاهدًا على ذوبان الفرد وانحصار دورهم أمام سلطة الأشياء"، هذه أشياء نقابلها في رواية البساطي، فموضوعها هو الانفعال والحنين الخفيّ؛ وعلاقة الإنسان بالمكان، ذلك الإنسان الذي سقط في الرواية الجديدة، وهو الإنسان المهمش عند البساطي، فلم يعد البؤرة المقدسة، بل هو الهامش الذي يصير بؤرة بفضل المكان، البحيرة، كما أشرنا في بداية المقال، التي وهبت من روحها المطلقة، بعض أنفاسها، على الإنسان، وفاضت بأسطورتها على ما حولها، وخلقت خيالات وانفعالات خفية ,عصية على الفهم أو الإدراك، وهنا كان معنى الفن عند البساطي.
  وقد نلمس عند البساطي إدراك لموضوع الرواية، الذي لا يقوم على الحكاية بشكلها الاعتيادي التقليدي، إذ يقول في حواره الصحفي: والحقيقة أن الصعوبة في الكتابة تتبدى من ذلك الإيقاع الغامض الذي يقود الكاتب أثناء الكتابة.
ويقول أيضًا": أردت أن يكون أشبه بنغمة أخيرة، أو لمسة صغيرة لتنغلق الدائرة، أو انكسار المنحنى، أو زفيف رياح تمضي.

وبهذا فإننا نرى ما يقود البساطي، هذا الإيقاع الغامض، هذا اللحن الخفي، هذه الصورة التي تبدو مثل ريح لا يمكن الإمساك بها، لأنها قد مضت، لكن طيفها وشبحها لا يزال يسكن الذاكرة. تتجلى تلك الطفولة الزرقاء التي عاشها في ذلك النص؛ وأهم ما في الأمر إن الكتابة هنا لعبة مرهقة، صعبة، لأنها محاولة للامساك بما هو خفي، بطيف عابر، برائحة لم يبقَ أثرها غير في الذاكرة، بشبح أبطال عاشوا في أرض بعيدة، لكن حضورهم لا يزال قويًا، يلحون من أجل وجودهم، فينتصر الفن لهم ويخلدهم، وإن كانوا أشباحًا، وربما – كما قال دريدا- كان الشبح هو الحقيقة الوحيدة
.

تعليقات

المشاركات الشائعة