النورس جوناثان ليفنجستون محاولة بسيطة للطيران

النورس جوناثان ليفنجستون محاولة بسيطة للطيران

منشورة في مجلة عالم الكتاب عدد إبريل ٢٠١٨

https://scontent.fcai1-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/36269348_10156133332032203_7349273146123354112_n.jpg?_nc_cat=103&_nc_eui2=AeHlFJzs5qlntvkVs6WenB8ndBJ8boZtCcqMwTcN3zMPP0Ce1_qgd0LNZNm6hSLXOhOOFqvFKldKyfbIRG1FHkAefzAJ-klkqlj5r2X3--Nxcw&_nc_ht=scontent.fcai1-1.fna&oh=c4618623bbf5b457d0794eaa04c185f3&oe=5D1360AB

قراءة مصطفى الشيمي


  لسنا أمام رواية مرهقة، بل أمام رواية سهلة، بسيطة، مباشرة. رواية النورس جوناثان لينفجستون لريتشارد باخ، بترجمة محمد عبد النبي، لا تهتم كثيرًا بتقنيات السرد أو ألعاب الكتابة أو أسئلة الزمن، قدر اهتمامها بالحكاية، أو الحدوتة، التي يرويها علينا السارد بفلسفة بسيطة ورمزية طفولية، لا تحتاج منا إلى بذل جهد كبير في القراءة، وبالتالي فإن التفاعل مع النص بمعنى الهدم وإعادة البناء، يختلف وفقًا لنوعية القارئ، إذا كان على قدر من الثقافة سيراه ساذجًا وإذا كان القارئ بسيطًا سيراه ملهمًا، ويمكننا ان نستعير قول الناقد السينمائي الأمريكي روجر ايبرت: كان يفترض لهذه الرواية أن تباع للمراهقين، حتى الأطفال يمكنهم فهم مرادها بسهولة ودون جهد.
في هذا الإطار يمكننا قراءة هذه الرواية الروحانية، أو التنموية، ذات الحكاية البسيطة، ومن هنا نستطيع أن نتلقى هذه الفلسفة، البسيطة، باعتبارها طاقة روحانية، تقود المرء إلى حلم تحقيق الذات، وليست بصفتها فلسفة حقيقة، مرهقة، أو تطرح رؤى مختلفة، فإننا أمام قصة المسيح، النورس، الذي حلم بالطيران، باعتباره الغاية، مع الوضع في الاعتبار أن النوارس الأخرى لا تطير، لا تحلم، وإنها إذ تفعل ذلك فلغاية هي الوصول إلى فتات الخبز عند قوارب الصيد، "بالنسبة إلى أغلب النوارس، ليس الطيران هو المهم، بل الأكل"صـ 12، لكن هذا النورس جون يقابل برفض المجتمع، السرب، القطيع، لهذه الفكرة، فكرة تحقيق الذات، أو الفردانية، فيقابلوه بالنبذ، حتى بعدما استطاع الطيران مثل بومة في الظلام "الظلام! انبعث الصوت الأجوف الأجش منذرًا – النوارس لا تطير أبدًا في الظلام" ص 18، أو عندما طار كصقر "أجنحة قصيرة. أجنحة صقر قصيرة" ص19، ولمّا اكتشف أن "السرعة كانت قوة، والسرعة كانت بهجة، والسرعة كانت جمالًا خالصًا" حاكموه ونبذوه، هذا مفهوم باعتبار ما جاء في الإنجيل، لا كرامة لنبي في وطنه"، ويضطر النورس إلى السكن في المنحدرات القصية، ولا نبوة دون غار، وهناك يكتشف السماوات العلى، ويعرف أن "السماوات ليست مكانًا، وليست زمانًا، إنها حالة الكمال" ص 40، ولا يخفى على القارئ أننا نستطيع سد كل فجوات قراءتنا من النص، أي أن النص لا يترك مساحة للتأويل، الرموز واضحة، ومباشرة، وليس علينا محاولة التأويل، إننا نستقبل فقط الرسالة، النص، وفي مثل هذه الحالة من الكسل فالنص لا يكون ولادًا للمعاني ولا يكون متجددًا، سنجد أيضًا بعد هذه الرحلة في السماوات العلى، أنبياء، وعندما يعود إلى الأرض سيقابل النورس جون تلاميذه، الذي سيحاول تعليمهم الطيران وإرشادهم لقدرتهم، فيجعل الأعرج يطير، ويجعل الميت يعود إلى الحياة، قبل أن يضطر النورس جون إلى القيامة، أو الموت، أو الصعود للسماء ويترك مهمة التبشير هذه إلى تلاميذه. لا يخفى إذًا رمزية المسيح، باعتباره المعلم، المرشد، حتى المعجزات التي يقوم بها النورس مع تلاميذه هي تناص بسيط مع معجزات المسيح، وإذا كنا نقرأ الإنجيل في هذا النص، بلغة أراد لها المترجم محمد عبد النبي، في بعض الأحيان، أن تحمل تعابير القرآن لتكون أقرب إلى ثقافة القارئ، "هل أصابهم العمى؟ ألهم أعين يبصرون بها" صـ 51، فإننا إلى جانب هذا الدرس التبشيري نستطيع أن نقابل أيضًا روحًا بوذية متجسدة في معلم جون، وهو النورس تشاينج.
  في اعتقادي، أن الجزء الأفضل في الرواية هو الجزء المضاف حديثًا، الجزء الرابع، بعد صعود النورس جون، والحياة في عهد خلفاءه الراشدين أو تلاميذه، وكيف تحول العالم أو حلم الطيران، الحرية، المعرفة إلى مسخ، وتمر أسطرة النورس جوناثان وتعاملوا مع تلميذه فلتشر باعتباره ولي، ونرى هذه الأسطرة والالتزام بهوامش النص، أو حرفية النص، عندما وقفوا أمام النورس فلتشر وقالوا "حضرة النورس الأب فلتشر، هل قال الجليل جوناثان: إننا في الحقيقة أفكار النورس العظيم أم قال إننا في الواقع أفكار النورس العظيم؟"ص81،  وقالوا أيضًا "حسنًا، أيها النورس فلتشر، عندما كان النورس السماوي جوناثان يتأهب للطيران، هل كان يتخذ خطوة واحدة فقط نحو الريح، أم خطوتين؟"، وبهذا فإنهما نسوا قيمة الرسالة التي جاء بها النورس جوناثان، الذي قال "لا تدعهم ينشرون شائعات حمقاء عني، أو يتخذونني ربًا لهم. أتفقنا يا فلتشر؟ أنا مجرد نورس. أحب الطيران"، ص74، ولا يكتفون بهذه الأسطرة، النورس السماوي، ابن النورس العظيم، الذي لا يتكرر، رغم أنهم قد تجاوزوه وحلقوا أبعد مما وصل، فبعد وفاة آخر التلاميذة فلتشر يتحولون إلى الرهبنة الكاملة، فتفقد الرسالة كل قيمتها، وتصبح مجرد طقوس وصلوات، وبرطمة لا يفهم منها شيئًا. وتتحول الرسالة إلى دين، بالمعنى الضيق للكلمة، وإلى سماء محظور الطيران فيها بسبب المعابد والأضرحة على الأرض. لا يخرج هذا الجزء الرابع عن إطار الرواية التنموية السهلة، ولكن –على الأقل- يكمل رؤية العالم لريتشارد باخ، بدلا أن يبدو مثاليًا وسخيفًا أكثر مما ينبغي.
  في نهاية الجزء الرابع المضاف حديثًا إلى الرواية، عام 2013، رغم صدورها للمرة الأولى عام 1970، فإننا نرى شخوص هؤلاء العالم، المقيد بالطقوس البالية، يتمردون أو يكفرون بالأسطورة جوناثان، أو بالأساطير التي يعرفونها عن هذا النورس، وبالتالي يقتربون أكثر مما يقترب الرهبان من حقيقة الرسالة الأولى. هم أبناء النورس جوناثان الحقيقين، الغرباء، وطوبى للغرباء. إن العالم يستعيد الصيرورة الأولى التي وجد عليها، السرب البعيد عن المعنى، الحاكم، المقيد، وإن تم بناء هذا العالم، الثاني، على جثمان النورس النبي، يبقى الأمل في يد المتمردين، الرافضين أو الكافرين، لهذه المنظومة. والغريب هو أن هذا الجزء المضاف، لم يرده الكاتب باخ في الرواية، إذ يقول "ظللت أقرأ الجزء الرابع، المرة تلو المرة، في ذلك الحين، ولم يبد لي صادقًا أو حقيقيًا بالمرة! فهل يمكن للنوارس التي اتبعت إجابات النورس جوناثان أن تقتل روح الطيران بالطقوس والشعائر. وقال الفصل أنه ممكن، لكني لم أصدقه"، وقد وضعه في النهاية بعد سنوات عديدة، رغم أن هذا الجزء في قراءتنا أصدق ما في حكاية النورس.
  لقد وضع الكاتب الجزء لأن صوت أخبره "كنت أعرف ماذا أصنع! في قرنكم الواحد والعشرين هذا، وأنتم مطوقون بالسلطة والطقوس. ضاق الطوق حول أعناقكم حتى اختنقت حريتكم، ألا ترى؟ من المخطط أن يكون عالمكم آمنًا، ولكن ليس حرًا"، وبهذا قرأنا الرواية كاملة كما كتبتها، منذ سنين عديدة، وهذا التدخل في متن النص، وإضافة عدة صفحات جديدة، يطرح سؤال هامشي؛ فالمتعارف عندنا هو عدم الاقتراب أو التعديل من النصوص ما دامت قد نشرت.
  يبقى أن نشير إلى ملاحظتين، الأولى هي أن رواية النورس جوناثان ليفنجستون، وهي إن كانت رواية بسيطة، لا تطرح أسئلة كبرى، أو تجعل من الأسئلة الكبرى مادة سهلة للقراءة العابرة، فإنها تحمل متعة مع ذلك، وإن بدت طفولية، فكاتب الرواية طيار، وعالم الرواية هو الطيران، يجعل من النوارس طائرات صغيرة لطيفة. "لو كان مكتوبًا لي أن أتعلم الكثير والكثير عن الطيران لوجدت خرائط ومخططات مرسومة في دماغي" ص17، ورغم طفولية هذا العالم، واللغة التي حافظ عليها المترجم من خلال مفردات مثل "دماغي" ، "عيب عليك"، تحافظ على اللغة المكتوب بها النص، أو الروح، أو الفئة المستهدفة، باعتبار أن النص رائع باعتباره عتبة للقراءة، أو متعة خفيفة عابرة. أما الملاحظة الثانية فهي في هوامش النص، إذ يمكننا أن نقرأه باعتباره تأكيد على فردية الفرد في عالم الليبرالية، الذي ينادي على هذه القيمة باعتبارها روح العالم الجديد، خصوصا مع وضع في الاعتبار تاريخ كتابة العمل، ولكن هذا لا ينفي أيضًا، أن بعض القراء، قد يتلقون العمل باعتبار الكاتب من ضمن الهيبيز، تلك الحركة المناهضة للرأسمالية والاستهلاكية، فالرفض ظاهر في الأجزاء الثلاثة للسرب، للمجتمع، وفي الجزء الرابع، خاصة مع الفصل الأخير؛ كلمة المؤلف التي قال فيها ما سبق أن قرأناه "أنتم مطوقون بالسلطة والطقوس، ضاق الطوق حول أعناقكم"، وإن كانت القراءتان تقف في مرتبة الضدين، هل العمل ضد الرأسمالية أو يؤمن بها، فإن هذا لا يدل على ثراء العمل، قدر ما يشير إلى اختلاف القراءات، باعتبار أن كل قراءة هي قراءة مغرضة، في حقيقة الأمر، وتبنى من داخل النص ومن الهوامش أيضًا.

تعليقات

المشاركات الشائعة